الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فمن الأولى أنْ نلتفتَ إلى الخالق العظيم الذي أبدع لنا هذا الكون، فالانصراف- إذن- عن آيات الله والإعراض عنها حالة غير طبيعية لا تليق بأصحاب العقول.يقول الحق سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض}.الرواسي: الجبال جمع رَاس يعني: ثابت، وقد عبر عنها أيضًا بالأوتاد، فقال: {والجبال أَوْتَادًا} [النبأ: 7] شبّه الجبال بالنسبة للأرض بالأوتاد بالنسبة للخيمة.ثم يذكر عِلَّة ذلك: {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] أي: مخافة أن تميل وتضطرب وتتحرك بهم، ولو أنها مخلوقة على هيئة الثبوت ما كانت لتميد أو تتحرك، وما احتاجت لأن يُثبِّتها بالجبال؛ لذلك قال تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} [النمل: 88].فليس غريبًا الآن أن نعرف أن للجبال حركة، وأنْ كنا لا نراها؛ لأنها ثابتة بالنسبة لموقعك منها؛ لأنك تسير بنفس حركة سيرها، كما لو أنك وصاحبك في مركب، والمركب تسير بكما، فأنت لا تدرك حركة صاحبك لأنك تتحرك بنفس حركته.وقد شبَّه الله حركة الجبال بمرِّ السحاب، فالسحاب لا يمرُّ بحركة ذاتية فيه، إنما يمرُّ بدفْع الرياح، كذلك الجبال لا تمرُّ بحركة ذاتية إنما بحركة الأرض كلها، وهذا دليل واضح على حركة الأرض.ثم يقول تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء: 31] أي من حكمة الله أنْ جعل لنا في الأرض سُبُلًا نسير فيها، فلو أن الجبال كانت كتلة تملأ وجه الأرض ما صَلُحَتْ لحياة البشر وحركتهم فيها، فقال: {فِجَاجًا سُبُلًا} [الأنبياء: 31] أي: طرقًا واسعة في الوديان، والأماكن السهلة. وفي موضع آخر قال: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20].ومعنى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 31] يصح في الجبال أو في الأرض، ففي كل منهما طرق يسلكها الناس، وهي في الجبال على شكل شِعَأب ووديان.ثم يذكر سبحانه عِلَّة ذلك، فيقول: {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [الأنبياء: 31] والهداية هنا تحتَمل معنيين: يهتدون لخالقها ومكوِّنها، ويستدلون بها على الصانع المبدع سبحانه، أو يهتدون إلى البلاد والأماكن والاتجاهات، وقديمًا كانوا يتخذون من الجبال دلائل وإشارات ويجعلونها علامات، فيصفون الأشياء بمواقعها من الجبال، فيقولون: المكان الفلاني قريب من جبل كذا، وعلى يمين جبل كذا، وقد قال شاعرهم:
فالهداية هنا تشمل هذا وذاك، كما في قوله تعالى: {وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] أي: يهتدون إلى الطرق والاتجاهات، وكان العربي يقول مثلًا: اجعل الثُّريَا عن يمينك أو النجم القطبي، أو سهيل أو غيرها، فكانوا على علم بمواقع هذه النجوم ويسيرون على هَدْيها.أو: يهتدون إلى أن للنجوم علاقة بحياة الإنسان الحيِّ، وقديمًا كانوا يقولون: فلان هَوَى نَجْمه، كأن لكل واحد منا نجمًا في السماء له علاقة ما به، وهذه يعرفها بعض المختصين، وربما اهتدوا من خلالها إلى شيء، شريطة أن يكونوا صادقين أمناء لا يخدعون خَلْق الله.ويُؤيِّد هذا قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75- 76] أي: لو كنتم على معرفة بها لعلمتُم أن للنجوم دورًا كبيرًا وعظيمًا في الخَلْق. اهـ.
لأنه أراد النوعين، وتبعه ابن عطية في هذا فقال: وقال: {وكانتا} من حيث هما نوعان. ونحوُه قولُ عمرِو بن شييم: ورَتْقًا: خبرٌ. ولم يُثَنَّ لأنَّه في الأصلِ مصدرٌ. ثم لك أن تجعلَه قائمًا مقامَ المفعولِ كالخَلْقِ بمعنى المَخْلوق، أو تجعلَه على حَذْفِ مضافٍ أي: ذواتَيْ رَتْقٍ. وهذه قراءةُ الجمهور.وقرأ الحسنُ وزيد بن على وأبو حيوة وعيسى {رَتَقًا} بفتحِ التاءِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ أيضًا، ففيه الوجهان المتقدِّمان في الساكنِ التاءِ. والثاني: أنه فَعَل بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَض بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض، وعلى هذا فكان ينبغي أَنْ يطابقَ بخبرِه في التثنية. وأجاب الزمخشري عن ذلك فقال: هو على تقديرِ موصوفٍ أي: كانتا شيئًا رَتَقًا. ورَجَّح بعضُهم المصدريةَ بعدمِ المطابقَةِ في التثنية، وقد عرفت جوابه. وله أن يقولَ: الأصلُ عدمُ حذفِ الموصوف فلا يُصارُ إليه دونَ ضرورةٍ.والرَّتْقُ: الانضمامُ. ارْتَتَقَ حَلْقُه: أي: انضمَّ. وامرأةٌ رَتْقاءُ أي: مُنْسَدَّة الفَرْجِ، فلم يُمْكِنْ جماعُها من ذلك. والفَتْقُ: فَصْل ذلك المُرْتَتِقِ، وهو من أحسن البديع هنا؛ حيث قابل الرَّتْقَ بالفَتْق. قال الزمخشري: فإنْ قلت: متى رَأَوْهما رَتْقًا حتى جاء تقريرُهم بذلك؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه وارِدٌ في القرآن الذي هو معجِزٌ في نفسِه، فقام مقامَ المَرْئيِّ المشاهَدِ. والثاني: أنَّ تَلاصُقَ السماء والأرض وتبايَنهما كلاهما جائزٌ في العقلِ فلابد للتباين دون التلاصُقِ من مخصِّصٍ وهو القديمُ سبحانه.قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} يجوز في جَعَل هذه أَنْ تكونَ بمعنى خلق فتتعدى لواحدٍ وهو كلُّ شيءٍ، و{مِنَ الماء} متعلق بـ الفعلِ قبلَه. ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من {كل شيء} لأنه في الأصلِ يجوز أن يكونَ وَصْفًا له، فلما قُدِّم عليه نُصِبَ على الحال. ومعنى خَلْقِه من الماء أحدُ شيئين: إمَا شدةُ احتياجِ كلِّ حيوانٍ للماء فلا يعيشُ بدونِه، وإمَا لأنه مخلوقٌ من النُّطْفَة التي تسمى ماءً. ويجوز أن تكونَ جَعَلَ بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما الجارُّ بمعنى: أنَّا صَيَّرْنا كلَّ شيء حيّ بسبب من الماء لابد له منه.والعامَّةُ على خفض {حيّ} صفةً لشَيْء. وقرأ حميد بنصبه على أنه مفعولٌ ثانٍ لـ: جَعَلْنا. والظرفُ لغوٌ. ويَبْعُد على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ جعل بمعنى خَلَقَ، وأنْ ينتصبَ حَيًَّا على الحال.{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}.قوله: {أَن تَمِيدَ} مفعولٌ من أجله أي: أن لا تميدَ فَحُذِفَتْ لا لفَهْمِ المعنى، أو كراهةَ أَنْ تميد. وقَدَّره أبو البقاء فقال: مخافَةَ أن تميدَ. وفيه نظرٌ لأنَّا إنْ جَعَلْنا المخافةَ مسندةً إلى المخاطبين أخْتَلَّ شرطٌ من شروطِ النصبِ في المفعولِ له وهو الفاعل. وإنْ جَعَلْناها مسندةً لفاعل الجَعْل استحال ذلك، لأنَّه تبارك وتعالى لا يُسْنَدُ إليه الخوف. وقد يقال: يُختارُ أن تُسْنَدَ المخافةُ إلى المخاطبين. قولكم: يختلُّ شرطٌ من شروطِ النصب. جوابُه: أنه ليس بمنصوبٍ، بل مجرورٌ بحرف العلةِ المقدرِ. وحَذْفُ حرفِ الجر مُطَّردٌ مع أنْ وأنَّ بشرطه.قوله: {فِجَاجًا سُبُلًا} في {فجاجًا} وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به و{سُبُلا} بدلٌ منه. والثاني: أنه منصوب على الحال مِنْ {سبلًا} لأنه في الأصلِ صفةٌ له فلمَا قُدِّم انتصبَ حالًا كقوله: ويدلُّ على ذلك مجِيْئُه صفةً في الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20]. قال الزمخشري: فإن قلت: في الفجاجِ معنى الوصفِ، فما لها قُدِّمَتْ على السُّبُل ولم تُؤَخَّرْ، كقوله تعالى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}؟ قلت: لم تُقَدَّم وهي صفةٌ ولَكِن جُعِلَتْ حالًا كقوله: فإنْ قلتَ: ما الفرقُ بينهما من جهةِ المعنى؟ قلتُ: أحدُهما أعلامٌ بأنه جَعَلَ فيها طرقًا واسعة. والثاني: أنه حينَ خَلَقها خَلَقها على تلك الصفةِ، فهو بيانٌ لما أُبْهِم ثمةَ.قال الشيخ: يعني بالإِبهامِ أنَّ الوصفَ لا يلزمُ أَنْ يكونَ الموصوفُ متصفًا به حالةَ الإِخبارِ عنه، وإن كان الأكثرُ قيامَه به حالةَ الإِخبارِ عنه. ألا ترى أنه يُقال: مررتُ بوَحْشيٍّ القاتلِ حمزةَ، وحالةَ المرورِ لم يكن قائمًا به قَتْلُ حمزة.والفَجُّ: الطريقُ الواسعُ. والجمعُ: الفِجاجُ.والضميرُ في {فيها} يجوزُ أن يعودَ على الأرض، وهو الظاهرُ كقوله: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطًا لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 19- 20] وأَنْ يعودَ على الرَّواسي، يعني أنه جعل في الجبال طُرُقًا واسعة. اهـ.
|